ها نحن في الزحامِ يدوسُ بعضنا بعضا، نخشى الاختناقَ فلا نفكرُ في فضلٍ أو مكرمة، لم تُعلمني أمي في صغري أنَّ العدوَ قد يشبهني، كنت قبل نومي أتخيل معاركنا مع أناسٍ مرعبين يختلفون عنا، أهربُ منهم أو أقاتلهم فأشعر في خيالي بنشوةِ الانتصار.
كبُرنا ولم تُفدنا كلماتُك عن الأخلاق، بات الدمُ رخيصًا، لم تعد اللعنات تصحب الدماء المسكوبة، اللعنات ما عادت تُلاحقُ سوى الضُعفاء المهزومين، أهربُ من الدماء لكن إلى أين؟؟ الدماءُ قد لوثت ثيابي وما عاد هناك مفر!!
قد كنا نُذبحُ كما تُذبحُ الخراف بلا مبرر أو ضمير، كنا نسير منسحبين مهزومين، لم يهزمنا عدو بقدرِ ما هزمتنا قيمُنا، الأعينُ المكسورةُ والقلوبُ المجروحةُ تُدرك أن سببًا قد تعلقنا به لم يُجرنا.
أعود إلى منزلي لألقى شفقةً في أعينِ زوجتي، زوجتي التي تُداوي الآن رجلاً كانت تستمد منه قوتَها، لن تستطيعَ فعلَ ذلك طويلًا ستتلقى خبرًا بمقتلِ شقيقِها، ألم أقل أن الدم بات رخيصا!! تلقت زوجتي التي تحمل جنينها الخبر ثم تهاوت كما تتهاوى المياه من شلالات الأدغال، سريعةً قويةً مجذوبةً بغيرِ إرادة.
صوتُ أنينيها المكلوم ليلا تصنعُ فجوةً لا أملك طاقة لأملأها، يموتُ الجنين وكأنَّ أمه الجريحة لم تتحمله، أو كأنهما قد اتفقا بشكلٍ سري على أنَّ العالمَ لم يعد به متسع، لم أضجر باتفاقهما كما يتوجب علي، لم أكن لأجد ما أعلمه إياه، تبكي امرأتي في كلِ وقت، أعلم أنَّها تنتظرُ مني كلماتِ المواساة، أن أشددَ من أزرها.
تدقُ بابَ بيتي امرأةٌ عجوز معصوبة العينين تسألني أن أعطيها مما أعطاني الله!!، اللهُ يا امرأة لم يعطني شيئًا سوى الخزي والعار، اخلعي عن عينيكِ عصابتَها وانظري إلى الأشلاء، أي يقينٍ بداخلِك يدفعُكِ أن تسيري معصوبةَ العينين تطلبين فضلا؟؟ بأي قوةٍ تتعلقين؟؟
العالمُ أصبح بلا دفة ولا ربان، أمواجٌ تتلاحقُ وتتصارع، ألواحٌ تتهاوى، وصرخاتٌ تستنجد، وبحرُ بلا أسماك، صراعٌ بلا موت أو نجاة، وأنا هُنا بلا إحساس أذكرُ قولَكِ أمي عن غريقٍ يتعلقُ بقشةٍ فأبتسم حين لا أجدُ أنا تلك القشة!!
يمكن أن تقرأ أيضًا..