كيف تدفعُنا أحلامُنا أن نتقدمَ للأمامِ في حياةٍ نعرفُ مسبقًا نهايتَها، وكأنَّ نوعًا من الخداعِ يسيطرُ على عقولِنا، يجعلُنا نؤمنُ بأنَّ الحياةَ فانية ونسعى في ذاتِ الوقتِ أن نَخُلدَ فيها، نؤمنُ أنَّ النهايةَ قد تأتي في أيةِ لحظة ونتحركُ بأملِ مَن لا نهايةَ له، وكأنَّ أفكارَنا تتحركُ في العقولِ حركاتٍ متوازية لا تتقاطعُ مُطلقا.
لقد أدركتُ أنَّ النهايةَ الحقيقيةَ للحياةِ ليست نجاحًا أو فشلاً، ليست تحقيقَ ذاتٍ أو فُقدانَ قيمة، النهايةُ الحقيقيةُ للحياةِ هي الموت، قد يأتي الموت بعدَ عشرة أعوام أو عشرين، لهذا قررت أن أتحلى بالشجاعة وأن أتخذَ قرارًا بالانتحار.
في عشرينيات العمرِ نظنُ أننا قد نبلغ عنانَ السماء، ننغمسُ في خططٍ محدودةٍ بحدودِ أحلامِنا، ونظنُ أننا نمضي إلى حيث الخلود، في الطريقِ تتساقطُ الأحلامُ وتنكمشُ الحدودُ وتُقيدُ جهودَنا بقيودِ الواقع، وننتبه حيث نجدُ أنفسَنا على حافةِ النهاية، لا قيمةَ للماضي ولا تعريفَ للمستقبل، ولا فرصة لبدايةٍ جديدة.
في سنواتِ العمرِ نمضي عبرَ منفى أقرهُ لنا السجان، نتألمُ بصرخاتِ الرضا ونتعبدُ بآهاتِ الألم، نمضي ونمضي صانعينَ غاية في عالمٍ جُلَّ غايته نهاية، تمرُ أعوامُ العمرِ تباعاً كمياهٍ جارفة تأخذُ في طريقِها أحلامَنا وطموحَتنا، تأخذُ في طريقِها الحياة، كم هو بائس حالنا حين نهرب من كل ذلك إلى عيون يبتسم لها القلب في غفلة من الزمان.
في منتصفِ العمرِ نتعلمُ كيفَ نهربُ ولا نواجه، نهربُ من شعورٍ يلاحقُنا بأننا نُضيعُ عمرَنا بغيرِ فائدة، نخشى أن نواجهَ حقيقة أننا نمضي في الطريق الخاطئ وأن كل ما مضى كان بلا فائدة، نُدركُ أنه يتوجبُ علينا أن نتوقفَ ونبدأَ من حيث ينبغي أن يقودناَ الطريقُ للاتجاهِ الصحيح، لكننا نخشى ذلك فنهربُ من أفكارِنا ومشاعرِنا، نهربُ من الطريقِ الصحيح، ثمَّ نبحثُ عن كلِ شيءٍ يمنحنا الأمان، عن الصديقِ والحبيبةِ والعائلة، نبحثُ عن مجتمعٍ يمنحنا الأمان في طريقِنا الخاطيء، ونظلُ نمضي حتى ندركَ في النهايةِ أننا خاسرون فنتقبلُ الحقيقةَ الوحيدةَ في هذا العالمِ وهي أننا فانون.
يهيء لي أحيانا أن البشر جميعا أبناء عاهرة كبيرة، اجتمعت في نفسها صفات العهر متجلية ثم من داخلها جاء جميع البشر يحملون شيئا من هذا ولو قليل، أحيانا يتغلب على نقائهم وقد يتغلب نقائهم على هذا العهر، لكن تبقى هناك نسبة بداخلهم تتجلى في تصرفاتهم، لا يضايقني ذلك بقدر ما يستفزني محاولات إنكار الجميع ذلك، تضحكني محاولاتهم المستمرة في التبرؤ من شيء بداخلهم لا ذنب لهم فيه، لماذا لا يعترف الجميع أنهم أبناء عاهرة؟
كنتُ أعرفُ أني أبداً لن أرضى، مضت حياتي البائسة رويداً، مدفوعةٌ أحياناً بأملي في أن تتحسن الأمور وأحياناً تمضي خلفَ سرابِ نجاحاتٍ أوشك أن أحققها، دائماً كانت هناك نجاحات أوشك أن أحققها، وبينما تمضي الحياة بآمالها وأحلامها هناك عمرٌ ينتهي بغتة، يتقدمُ إلى حيث النهاية، وفي النهايةِ نرى فجأة بداياتِنا، أرى خُطواتي الأولى حيث أخطوها بخُطواتٍ ثابتة نحوَ أحلامٍ أوقن بتحقيقها، أُدركُ هنا تلك المتاهة التي دُرت فيها لأعوامٍ أختارُ بينَ مسالكها رغم أنها لا تحتوي سوى نهايةٍ واحدة؛ الموت.
أُدرك الآن كم كانت رحلتي الطويلة عبثية فبقدرِ القراراتِ التي اتخذتُها لم أمتلك أياً منها كأنها معادلةٌ صفرية مهما حوى حدُها الأول من أرقام فالحدُ الثاني لا قيمةَ له، كم هو بائسٌ حالي حين أمضي في حياتي وأصلُ إلى النهاية كي أدركَ أنها فقط - النهاية - كانت تصلح أن تكون بداية.
عندما نصلُ إلى نقطةٍ معينة في حياتِنا ندركُ فيها أنَّ القادمَ مهما طال أقصر بكثيرٍ مما مضى، فنشعرُ حينها أنَّ ما مضى رغم طولِه لا يمثلُ شيء، حينها فقط نزهدُ في الحياة، نُدركُ أنَّ الحياةَ بلا قيمة إذا كانت ستمرُ بتلك السرعة، في ذاكرتِنا يكونُ الماضي مجردُ غمضةِ عينٍ دائمًا، إدراكك لخمسةِ أعوام مضت يساوي إدراكك لعشرين عام، عندما تقدمتُ في السنِ أصبحتُ أكثرَ مسالمة، لم أعد أشغلُ بالي بالصراعات والأحداث كما كنتُ في فترةِ العشرين من عمري، لم أعد أرى أنَّ هناكَ غايةً لنا في الحياة إذا ما كانت تمرُ هكذا، كغمضةِ عين.
لم أنتبه لدخولِ الشتاء هذا العام، لم ألحظ برودةَ الجوِ في الصباح، رُبما لم تلتقط النهايات العصبية لخلايا جسدي لسعَ البرد فقد تمكن المرضُ منها، لكنَّ هذا لم يؤلمني، ما سبَّبَ لي الألم حقيقةً هو أنَّني لم ألحظ حركةَ أوراقِ الأشجارِ حين هبت الرياح، لم أرَ امتلاءَ السماءِ بالسحب، لم يأسرني المشهدُ كما كان في السابق، استيقظتُ صباحَ هذا اليوم لا يُسيطر على تفكيري سوى ألم ظهري المتزايد، لم أخرج لتناول القهوة في شرفتي كما تعودت، لم أعُد منذ فترة أتناول القهوة، أخبرني الطبيب أنَّها رُبما قد تُعجل بموتي، وأخبرتني الحياةُ أنَّ عدم تناولِها لن يمنعَ موتي.
يفكر قليلا ماذا لو أن الموت هو شخص يأتينا ويخيرنا، هل تود الموت الآن؟ أم تأخذ فرصة ثانية في الحياة؟ فرصة مشروطة بأن يمر بكل ظروف حياته مرة ثانية ولا يختار الخيار الذي اختاره مسبقا، نفس الأحداث بسيناريو مختلف، يفكر مرة أخرى ويتسائل لو أن هذا حدث هل ستختلف النهاية؟ ربما لا يكون وحيدا؟؟ ربما لا يصاب بالمرض؟؟ لكن بالتأكيد سينتهي الأمر بالموت في سن أكبر أو في سن أقل، نفس الشعور، ندم على ما فات وتوتر بشأن ما هو آت ثم موت، يستمر في تفكيره حتى يأتيه نوم عميق فلا يشعر بشيء...
المشيب في الرأس يدب بعدد السنوات الأليمات .. هذا الأبيض الذي يخطط رأسي يعبر عن كل قصص الحب الفاشلة والأحلام الضائعة، تجاعيد وجهي تمثل النهاية الحتمية التي وصلت لها، أنا على الحافة، بدأت هناك في القمة لأعود بأقصى قوتي مدفوعا للخلف، رحلة طويلة تنتهي بوقوفي الآن على حافة الهاوية أنتظر الدفعة الأخيرة كي أسقط للأبد، أتدري ما أذكره من رحلتي تلك؟؟ لاشيء!
لا شيء يمثل أهمية الآن حين أكون على وشك السقوط في الهاوية لذلك لو عدت حيث بدأت ربما كنت وليت وجهي وفررت إلى حيث أنا الآن..
ما الإنسان سوى شيطان لا يجيد الثورة، أدرك منذ اليوم الأول عبثية الحياة، لكنه لم يمتلك شجاعة إبليس، قضم من التفاحة ثم بكى مستغفرا، قتل أخيه ثم أبدى الندم، لا يجيد الإنسان الثورة لكنه أجاد منذ اليوم الأول الحيلة..
كنتِ كزهرةٍ تضربُ جذورَها في الأرضِ؛ ترفعُ رأسَها للسماءِ، تنشرُ عبيرِها في الأرجاءِ، وكنتُ كموجةِ بحرٍ هادرة؛ لا بدايةَ لها ولا نهايةَ، تبحثُ عن شاطئٍ يحتضنُ بقاياها، وحينَ رأيتُكِ عرفتُ أنكِ تحملينَ بداخلِكِ الحياةَ، احتضنتُكِ فسلبتُ حياتَكِ دونَ إرادةٍ مني، كنتِ تحملينَ الحياةَ لي وأحملُ بداخلي الفَنَاءَ لكِ
في مقتبلِ العمرِ زرتُ عرافة، أخبرتني أنِّي حين أصلُ إلى نهايةِ الطريق سأكتشفُ أنِّي أخطأتُ في اختيارِ البداية، من يومها وأنا متشككٌ قلق أحاول أن أختارَ بداياتي، أخشى كلَ القرارات، أخشى الندمَ في النهاية، الآن وأنا في نهايةِ العمرِ أعرفُ أنَّهُ ما كان عليَّ أن أخافَ أو أتشكك، كان ينبغي منذ البدايةِ ألا أزور أية عرافة
لم يستطع الإنسان الأول أن يمنع إعجابه بإبليس حين تمرد، رغم تحفظه الشديد على سلوكه الصادم إلا أنه كان يعلم جيداً أن إبليس قد خلد اسمه للأبد، لكن الإنسان لم يستطع أن يتخلى عن امتيازاته ويتمرد، أما عن إعجابه الدفين فقد قاده إلى الخطيئة والحرمان، لتتحول رغبته في الخلود الأزلي إلى محاولات إثبات الذات في دنيا فانية
يمكن أن تقرأ أيضًا..